تخطى إلى المحتوى

دور المسجد والمدارس القرآنية في تعزيز الأخلاق

  • بواسطة

د.أبونصر بن محمد شخار

تواجه المنظومة الأخلاقية في وقتنا المعاصر تحديات كثيرة، مهدِّدة لها بالتفكك والاضطراب تحت تأثير الفلسفات المادية والنسبية الأخلاقية (Moral relativism) ووطأة ثقافة الفردانية والهوس الاستهلاكي وٱفات النرجسية الاستعراضية، التي أدّت متضافرة لاضمحلال الأخلاق الأصيلة، وتهييج مشاعر الأنانية والطمع والفوضى الجنسية وتدمير الأسرة، وتفشي وسائل النشوة الزائفة من سموم المخدرات والمهلوسات والإباحية، واضطراب السكينة النفسية وخلو الحياة من المعنى…، وهي ظواهر عالمية تمثل الوجه السيء للتقدّم المادي المتسارع.

والأخلاق في تعريفها البسيط هي المبادئ التي يميّز بها الإنسان الوزن القِيمي للسلوكات، ولا ريب أن التجلِّي الأعلى للأخلاق يظهر عند عتبة القوانين وغياب الوازع الخارجي، وهنا تكمن أهمية تربية الوازع الداخلي من خلال حسن التصورات وجودة التربية، وهذا ما ينبغي أن يتعاون عليه المسجد والمدرسة القرآنية والأسرة والمدرسة الرسمية.

 ويمكننا تقسيم نظام زرع القيم إلى ثلاثة مستويات أساسية؛ الأساس التصوري الفلسفي للقيمة الأخلاقية من خلال التأسيس لمفهومها ومقاصدها وأهميتها، وترسيخ الدافع العقدي لامتثالها، وبيان الشوائب التصورية التي يمكن أن تغشاها، وخاصة الوارد منها عبر وسائل الإعلام التي من خلالها تتسابق الأمم في التسويق لثقافتها ونماذجها الفكرية ورؤيتها للحياة، وأما المستوى الثاني فإجرائي يتعلق بالتربية والمرافقة والقدوة وتوفير البيئة الأخلاقية، والمستوى الأخير هو نظام الحماية والردع المكفول لقوانين الدولة وأجهزتها، ويختص بمستوىً ضيقٍ من المجال الأخلاقي.

ويمكن للمسجد أن يكون له الدور الحيوي في المستويين الأوليين من خلال التوعية الفكرية المكثفة لكافة طبقات المجتمع؛ الأولياء والأبناء، الرجال والنساء، مع تفعيل لجان الصلح والمرافقة الاجتماعية التي تعنى بحماية الأسر واستقرارها من خلال التوعية والصلح العائلي؛ فاستقرار الأسرة أسّ التنشئة الأخلاقية، ويمكن كذلك للمسجد أن يكون له الدور الفاعل في تحفيز من حوله على استحداث البيئة الأخلاقية من خلال تبنّي النشاطات الرياضية الموجّهة، والفعاليات الاجتماعية التي تعلم الإنسان كيف يعيش مع أقرانه بلطف.

وللمدرسة القرآنية الدور المحوري الفعّال في زرع القيم النبيلة والتنشئة الأخلاقية المتوازنة للناشئة، من خلال استقطابهم لحفظ كلام الله تعالى وتمثّل أخلاقه، وبما تقدمه من مواد شرعية وأخلاقية، تبني الشخصية وتصقل السلوك، وتنشئ الإنسان السوي الحكيم، المحصن من آفات الفعل والفكر.

والبناء التصوري السليم هو أساس التربية الأخلاقية في الإسلام، فتربية الوازع الداخلي تكون بزرع محبة الله تعالى في القلوب وذلك باستحضار أسمائه ونعمه وآلائه على الإنسان ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ﴾، إضافة إلى ترسيخ الإيمان الصادق بيوم الدين، ليكون بوصلة أخلاقية لكل خطوة يخطوها المسلم مدركا لعواقب قراراته، فلما تحدث القرآن عن أخلاق التعامل الأسري وأحكامه قال ﴿ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِم مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾، وليس أي إيمان باليوم الآخر يحجز المرء عن فعل السوء، وإنما الإيمان النقي عن الشوائب التي تجعل تذكّر ذلك اليوم موعظة وتبصرة ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾، على خلاف التصوّر الذي لا يزيد المرء إلا إصرارا على السوء كما كان حال من أفسد في تصورات الوحي: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ.﴾وهذا البناء التصوري السليم من أعظم مهام المسجد.

ولا بد من شفع عملية البناء التصوري بعملية التخلية من التصورات السامة التي تضرب في عمق الحاسة الأخلاقية للمسلم، والحداثة المعاصرة لا تقصّر في ضخ سيل من هذه التصورات عبر الإعلام والدعاية الترويجية، وجميعها تستظل بمظلة تصوّر ماديّ للحياة، لا يقيم وزنا إلا للرفاه المادي، ولا يستخلص “سعادته” إلا من هوس الاستهلاك وتملك المزيد، ولا ريب أن هذا من نتائج عدم الإيمان باليوم الآخر، فقد لاحظ صاحب كتاب ” Vanity Economics” هذه العلاقة بأن الإنسان “دوما يسعى خلف المزيد لينشغل عن التفكير في الموت”، وهذا الأمر أتى مقترنا بتصورات الأنانية والفردانية، فتشكلت منظومة “أخلاقية” علمانية ضيقة تحت وازع القانون لا ترنو إلا إلى توفير العيش المادي الآمن مع الحدّ الأدنى من العلاقات الاجتماعية، وفوضى تصورية وجنسية عصفت باستقرار الأسرة وسكون الأنفس والضمائر، ولا تزال القوى الناعمة تعمل على إخفاء هذه الإخفاقات الأخلاقية خلف بريق التقدّم المادي وهالته.

ويعدّ المسجد وتعليمه القرآني الممثل الأقوى للجانب الإنساني والرحماني للمجتمع، وحريّ به أن يكون القوة التي تحفظ تماسك المجتمع والأسرة في وجه قوى التفكيك الجارفة التي يمثلها السوق المسنود من بعض السياسات غير الحكيمة، وتشير عدة دراسات اجتماعية متخصصة أنه من أهم أسباب البؤس النفسي والملل الاجتماعي والأسري في المجتمع الغربي أن الدولة الحديثة سحبت صلاحيات الجماعة والأسرة وحولت كل شيء لهيمنتها وهيمنة السوق، فأصبح كل شيء بضاعة للتسويق والدعاية: الحب والجنس والرعاية والتربية النفسية والتكافل…، فنشأت مؤسسات اقتصادية تعنى بتقديم تلك “السلع” كدور الدعارة ومؤسسات ربط العلاقات، ومؤسسات رعاية الأطفال والكبار، ومؤسسات التأمين المستعدة أن تؤمّن لك كل ما تخشى عليه، وتقوم الدعاية المادية على أن عليك أن تحقق فردانيتك والسوق يقوم بالبقية، فبنوك المني واستئجار الأرحام تخول لكِ أن تتفرغي للعمل في شبابك لتستدركي أمومتك بعد التقاعد ولو بدون زواج، وتكفل لك خدماتنا للإجهاض الٱمن أن تتخلصي من جنينك الذي يعيق مسيرتك المهنية، كما يمكنكم التخلص من والديكم المسنين فلدينا خدمة رعاية خمس نجوم…

فتحول الاهتمام من الجماعة والأسرة إلى الفرد، فيما يسميه أحد الكتّاب “الثقافة النرجسية”، فأعطى للنرجسية مفهوما معرفيا، فلم تعد النرجسية قيمة غير أخلاقية أو مرضا نفسيا وإنما أصبحت ثقافة تستند لرؤية كونية، فلما تم تفكيك كل ما يمكن أن يعطي للإنسان معنى في الحياة من دين وأسرة وجماعة متراحمة كان من الضرورة ملء الفراغ الداخلي بالنرجسية المفرطة والهوس بالجسد والاستهلاك والجنس، ويدعم هذا الطرح التحليل الذي قدّمه صاحب كتاب (vanity economics) إذ يرى أن الإنسان المعاصر أصبح لا يتحمل الفراغ وإن كان يملك الكثير لأنه يخاف أن يتأمل النهاية الحتمية، ولهذا هو دوما يسعى خلف المزيد لينشغل عن التفكير في الموت..

ويؤكد زيغموند باومان في كتابه “الحب السائل” أن البعد المادي الاستهلاكي امتد للعلاقات العاطفية فأصبح التغيير والسؤم من القديم أساسا، فآل إلى نسب الطلاق الكبيرة والزيجات المتعددة، كما أصبح الإنسان بفردانيته لا يقوى على تحمل مسؤولية العلاقات الاجتماعية ولا التضحية من أجل ذلك ففضل الاتصالات العابرة، ثم يربط ذلك السؤم والملل بطبيعة عقيدة الإنسان في الموت، فحين يكون الموت هو لحظة النهاية فإن الإنسان سيصاب بهوس اللحظة والاستمتاع بها إلى لحظة السكر دون تكلفة أو التزام ما. ودوما ستجد السوق من وراء الستار مستعدا لاستثمار ذلك الهوس بسوق ملياري لمواد التجميل وعملياته ومقاومة الشيخوخة ومنتجات التسلية الصاخبة والماجنة …

فٱفة المجتمع المعاصر هي اللامعنى وسرعة الملل من كل شيء، ومحاولة تجاوز الملل بالاستعراض النرجسي وتحقيق الذات الفردية وسط الضجيج العام، فأصبح كل شيء أداة لتحقيق ذلك حتى مصائبنا وأقدس أسرارنا أصبحت وسائل للفت الانتباه في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، فلم يعد يكفينا رضا أحبابنا ولا اهتمام أسرنا ولا أصدقائنا المقربين ولا حتى مناجاتنا لربنا في السر…

وهذه الرؤية الكونية يتم تصديرها إلى العالم بشراسة، ويصفق لها كل سطحي لا يفهم في الحضارة إلا التقدم المادي، أما الرؤية الكونية الإسلامية فتقوم على السلام والهدوء وطمأنينة القلب بذكر الخالق في السر، وهي حضارة العمق والإيثار، فالتسليم لله تعالى – كما يقول علي عزت بيجوفيتش في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”- هو “الطريقة الإنسانية الوحيدة للخروج من ظروف الحياة المأساوية التي لا حل لها ولا معنى”، فـ”الذين ٱمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب”.

وتقع المساجد والمدارس القرآنية في بؤرة التدافع الحضاري وحماية أخلاق الأمة من الأمراض التصوّرية والسلوكية المعاصرة، وذلك بتفعيل دورها في التربية الروحية والأخلاقية والاجتماعية، وإنَّ تخلِّيها عن دورها هذا أدّى –كما يلاحظ مالك بن نبي في كتابه “ميلاد مجتمع”- إلى “انفصالٍ بين العنصر الروحي والعنصر الاجتماعي، وافتراقٍ بين المبدأ والحياة”، وأن المسلم أضحت حرارة إيمانه وطاقته الحيوية تخفت بمجرد تجاوزه عتبة المسجد، وذلك بسبب وجود “نقص في الفاعلية الاجتماعية للفكرة الدينية”، وإن أضيف إلى تخلّى المسجد والمدرسة القرآنية والأسرة عن دورها الفكري والحضاري ضعفُ المنظومة القانونية وفساد الوازع الخارجي أصبحنا أمام صورة قاتمة لمجتمع تنتشر فيه مظاهر الدين وشكلياته ويكثر فيه الفساد، وربما نزل إلى دركة أقتم إن أصبح الخطاب الديني يؤصّل للفساد ويرسّخه بنشر تصوّرٍ مشوّه للخلاص بمجرد الانتماء إلى الإسلام من دون التزام بأخلاقه، فيجتث بذلك ما تبقى من الوازع الداخلي!

ولا ريب أن اضطلاع المسجد بهذا الدور الحيوي يستدعي أن يكون الإمامُ القدوةَ الأخلاقية الأعلى لمن حوله، وأن يكون على دراية واسعة بأصول التصورات الإسلامية التي تحفِّز على الأخلاق الطيبة والعمل الصالح، وإحاطة معتبرة بمختلف الأفكار والفلسفات الهدّامة المنتشرة في الواقع والتي تنقض أصول الأخلاق الإسلامية، وتدريب على أهم المهارات الاجتماعية والتواصلية، وهذه الكفاءات والمهارات ينبغي أن تكون قبلة كل إمام مسجد وغايته، ليؤدي الدور الحضاري الخطير المنوط به، متعاليا عن التصوّر الوظيفي الضيق لعمله، وإن حيوية هذا الدور يحتّم على المجتمع أن يسخّر لهذا المنصب أفضل الكفاءات الأمينة، وأن يستثمر في تفعيل التعليم القرآني الذي يعتبر رفدا ضروريا لدور المسجد الأخلاقي في المجتمع.

فإن تمكّن المسجد بمدرسته القرآنية من أداء دوره الفعّال في التوعية الفكرية والنشاط الاجتماعي الجواري سيكون بذلك منارة أخلاقية مؤثرة، ووسيلة بناء حضاري، بل يتعدى ذلك ليكون رافدا للتنمية الاقتصادية المتوازنة من خلال تكوين الفرد المتوازن الجاد المجدّ المنضبط بأخلاقيات العمل، ووسيلة لتنمية الرأس مال الاجتماعي للأمة من خلال إشاعة الثقة والنزاهة بين الناس، وسببا للحدّ من الإنفاق العام على فاتورة الٱفات الاجتماعية في المستشفيات والسجون والرعاية الاجتماعية لضحايا التفكك الأسري…، وأهم من ذلك كله سيغدو قبلة للأنس الروحي والاستقرار النفسي في عالم   يتّسم بوحشة المادة، ليكون مصداقا لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾.